سورة الجاثية - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجاثية)


        


هذه السورة مكية، قال ابن عطية: بلا خلاف، وذكر الماوردي: إلا {قل للذين آمنوا يغفروا} الآية، فمدنية نزلت في عمر بن الخطاب. قال ابن عباس، وقتادة، وقال النحاس، والمهدوي، عن ابن عباس: نزلت في عمر: شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة، فأراد أن يبطش به، فنزلت. ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح. قال: {فإنما يسرناه بلسانك} وقال: {حم تنزيل الكتاب}، وتقدم الكلام على {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} أول الزمر. وقال أبو عبد الله الرازي: وقوله: {العزيز الحكيم}، يجوز جعله صفة لله، فيكون ذلك حقيقة؛ {وإن جعلناه} صفة للكتاب، كان ذلك مجازاً؛ والحقيقة أولى من المجاز، مع أن زيادة القرب توجب الرجحان. انتهى. وهذا الذي ردّد في قوله: {وإن جعلناه} صفة للكتاب لا يجوز. لو كان صفة للكتاب لوليه، فكان يكون التركيب: تنزيل الكتاب العزيز الحكيم من الله، لأن من الله، إما أن يكون متعلقاً بتنزيل، وتنزيل خبر لحم، أو لمبتدأ محذوف، فلا يجوز الفصل به بين الصفة والموصوف، لا يجوز أعجبني ضرب زيد سوط الفاضل؛ أو في موضع الخبر، وتنزيل مبتدأ، فلا يجوز الفصل بين الصفة والموصوف أيضاً، لا يجوز ضرب زيد شديد الفاضل، والتركيب الصحيح في نحو هذا أن يلي الصفة موصوفها.
{إن في السموات والأرض}، احتمل أن يريد: في خلق السموات، كقوله: {وفي خلقكم}، والظاهر أنه لا يراد التخصيص بالخلق، بل في السموات والأرض على الإطلاق والعموم، أي في أي شيء نظرت منهما من خلق وغيره، من تسخير وتنوير وغيرهما، {لآيات}: لم يأت بالآيات مفصلة، بل أتى بها مجملة، إحالة على غوامض يثيرها الفكر ويخبر بكثير منها الشرع. وجعلها {للمؤمنين}، إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق. {وما يبث من دابة}، أي في غير جنسكم، وهو معطوف على: {خلقكم}. ومن أجاز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، أجاز في {وما يبث} أن يكون معطوفاً على الضمير {وفي خلقكم}، وهو مذهب الكوفيين، ويونس، والأخفش؛ وهو الصحيح، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين. وقال الزمخشري: يقبح العطف عليه، وهذا تفريع على مذهب سيبويه وجمهور البصريين، قال: وكذلك أن أكدوه كرهوا أن يقولوا: مررت بك أنت وزيد. انتهى. وهذا يجيزه الجرمي والزيباري في الكلام، وقال: {لقوم يوقنون}: وهم الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين.
{واختلاف الليل والنهار}: تقدم الكلام على نظيره في سورة البقرة. وقرأ الجمهور: آيات، جمعاً بالرفع فيهما؛ والأعمش، والجحدري، وحمزة، والكسائي، ويعقوب: بالنصب فيهما؛ وزيد بن علي؛ برفعهما على التوحيد. وقرأ أبي، وعبد الله: لآيات فيهما، كالأولى. فأما: {آيات لقوم يعقلون} رفعاً ونصباً، فاستدل به وشبهه مما جاء في كلام الأخفش، ومن أخذ بمذهبه على عطف معمولي عاملين بالواو، وهي مسألة فيها أربعة مذاهب، ذكرناها في (كتاب التذييل والتكميل لشرح التسهيل).
فأما ما يخص هذه الآية، فمن نصب آيات بالواو عطفت، واختلاف على المجرور بفي قبله وهو: {وفي خلقكم وما يبث}، وعطف آيات على آيات، ومن رفع فكذلك، والعاملان أولاهما إن وفي، وثانيهما الابتداء وفي. وقال الزمخشري: أقيمت الواو مقامهما، فعملت الجر، واختلاف الليل والنهار والنصب في آيات، وإذا رفعت والعاملان الابتداء، وفي عملت الرفع للواو ليس بصحيح، لأن الصحيح من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل؛ ومن منع العطف على مذهب الأخفش، أضمر حرف الجر فقدر. وفي اختلاف، فالعمل للحرف مضمراً، ونابت الواو مناب عامل واحد؛ ويدل على أن في مقدرة قراءة عبد الله: وفي اختلاف، مصرحاً وحسن حذف في تقدمها في قوله: {وفي خلقكم}؛ وخرج أيضاً النصب في آيات على التوكيد لآيات المتقدمة، ولإضمار حرف في وقرئ واختلاف بالرفع على خبر مبتدأ محذوف، أي هي آيات ولإضمار حرف أيضاً. وقرأ: واختلاف الليل والنهار آية بالرفع في اختلاف، وفي آية موحدة؛ وكذلك {وما يبث من دابة}. وقرأ زيد بن علي، وطلحة، وعيسى: {وتصريف الرياح}.
وقال الزمخشري: والمعنى أن المنصفين من العباد، إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح، علموا أنها مصنوعة، وأنه لا بد لها من صانع، فآمنوا بالله وأقروا. فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى هيئة، في خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان، ازدادوا إيماناً وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس. فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت، كاختلاف الليل والنهار، ونزول الأمطار، وحياة الأرض بها بعد موتها، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً، عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم. وقال أبو عبد الله الرازي: ذكر في البقرة ثمانية دلائل، وهنا ستة؛ لم يذكر الفلك والسحاب، والسبب في ذلك أن مدار الحركة للفلك والسحاب على الرياح المختلفة، فذكر الرياح؛ وهناك جعل مقطع الثمانية واحداً، وهنا رتبها على مقاطع ثلاثة: يؤمنون، يوقنون، يعقلون. قال: وأظن سبب هذا الترتيب: {إن كنتم مؤمنين} فافهموا هذه الدلائل؛ فإن لم تكونوا مؤمنين ولا موقنين، فلا أقل أن تكونوا من العاقلين، فاجتهدوا. وقال هناك: {إن في خلق السموات} وهنا: {في السموات}، فدل على أن الخلق غير المخلوق، وهو الصحيح عند أصحابنا، ولا تفارق بين أن يقال: في السموات، وفي خلق السموات. انتهى، وفيه تلخيص وتقدم وتأخير.
{تلك آيات الله}: أي تلك الآيات، وهي الدلائل المذكورة؛ {نتلوها}: أي نسردها عليك ملتبسة بالحق، ونتلوها في موضع الحال، أي متلوة. قال الزمخشري: والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة ونحوه، وهذا بعلى شيخاً. انتهى، وليس نحوه، لأن في وهذا حرف تنبيه.
وقيل: العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه، أي تنبه. وأما تلك، فليس فيها حرف تنبيه عاملاً بما فيه من معنى التنبيه، لأن الحرف قد يعمل في الحال: تنبه لزيد في حال شيخه وفي حال قيامه. وقيل: العامل في العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى، أي انظر إليه في حال شيخه، فلا يكون اسم الإشارة عاملاً ولا حرف التنبيه، إن كان هناك. وقال ابن عطية: نتلوها، فيه حذف مضاف، أي نتلو شأنها وشرح العبرة بها. ويحتمل أن يريد بآيات الله القرآن المنزل في هذه المعاني، فلا يكون في نتلوها حذف مضاف. انتهى. ونتلوها معناه: يأمر الملك أن نتلوها. وقرئ: يتلوها، بياء الغيبة، عائداً على الله؛ وبالحق: بالصدق، لأن صحتها معلومة بالدلائل العقلية.
{فبأي حديث} الآية، فيه تقريع وتوبيخ وتهديد؛ {بعد الله}: أي بعد حديث الله، وهو كتابه وكلامه، كقوله: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً} وقال: {فبأي حديث بعده يؤمنون} أي بعد حديث الله وكلامه. وقال الضحاك: بعد توحيد الله. وقال الزمخشري: بعد الله وآياته، أي بعد آيات الله، كقولهم: أعجبني زيد وكرمه، يريدون: أعجبني كرم زيد. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة؛ والعطف والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل، لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في: أعجبني زيد كرمه، بغير واو على البدل؛ وهذا قلب لحقائق النحو. وإنما المعنى في: أعجبني زيد وكرمه، أن ذات زيد أعجبته، وأعجبه كرمه؛ فهما إعجابان لا إعجاب واحد، وقد رددنا عليه مثل قوله هذا فيما تقدم. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، وشيبة، وقتادة، والحرميان، وأبو عمرو، وعاصم في رواية: يؤمنون، بالياء من تحت؛ والأعمش، وباقي السبعة: بتاء الخطاب؛ وطلحة: توقنون بالتاء من فوق، والقاف من الإيقان.
{ويل لكل أفاك أثيم}، قيل: نزلت في أبي جهل؛ وقيل: في النضير بن الحارث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن. والآية عامة فيمن كان مضاراً لدين الله؛ وأفاك أثيم، صفتا مبالغة؛ وألفاظ هذه الآية تقدم الكلام عليها. وقرأ الجمهور: علم؛ وقتادة ومطر الوراق: بضم العين وشد اللام؛ مبنياً للمفعول، أي عرف. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى: ثم، في قوله: {ثم يصر مستكبراً}؟ قلت: كمعناه في قول القائل:
يرى غمرات الموت ثم يزورها ***
وذلك بأن غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائبها بنفسه ويطلب الفرار منها، وأما زيارتها والإقدام على مزاولتها، فأمر مستبعد. فمعنى ثم: الإيذان بأن فعل المقدم عليها، بعدما رآها وعاينها، شيء يستبعد في العادة والطباع، وكذلك آيات الله الواضحة القاطعة بالحق، من تليت عليه وسمعها، كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها.
{اتخذها هزواً}، ولم يقل: اتخذه، إشعاراً بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم، خاض في الاستهزاء بجميع الآيات، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه. وقال الزمخشري: ويحتمل {وإذا علم من آياتنا شيئاً}، يمكن أن يتشبث به المعاند ويجعله محملاً يتسلق به على الطعن والغميزة، افترضه واتخذ آيات الله هزواً، وذلك نحو افترص ابن الزبعري قوله عز وجل: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: خصمتك؛ ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء، لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة *** الله والقائم المهدي يكفيها
حيث أراد عتبة. انتهى. وعتبة جارية كان أبو العتاهية يهواها وينتسب بها. والإشارة بأولئك إلى كل أفاك، لشموله الأفاكين. حمل أولاً على لفظ كل، وأفرد على المعنى فجمع، كقوله: {كل حزب بما لديهم فرحون} {من ورائهم جهنم}: أي من قدامهم، والوراء: ما توارى من خلف وأمام. {ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً} من الأموال في متاجرهم، {ولا ما اتخذوا من دون الله} من الأوثان. {هذا}، أي القرآن، {هدًى}، أي بالغ في الهداية، كقولك: هذا رجل، أي كامل في الرجولية. قرأ طلحة، وابن محيصن، وأهل مكة، وابن كثير، وحفص: {أليم}، بالرفع نعتاً لعذاب؛ والحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعيسى، والأعمش، وباقي السبعة: بالجر نعتاً لرجز.
{الله الذين سخر} الآية: آية اعتبار في تسخير هذا المخلوق العظيم، والسفن الجارية فيه بهذا المخلوق الحقير، وهو الإنسان. {بأمره}: أي بقدرته. أناب الأمر مناب القدرة، كأنه يأمر السفن أن تجري. {من فضله} بالتجارة وبالغوص على اللؤلؤ والمرجان، واستخراج اللحم الطري. {ما في السموات} من الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء، والأملاك الموكلة بهذا كله. {وما في الأرض} من البهائم والمياه والجبال والنبات. وقرأ الجمهور: {منه}، وابن عباس: بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على المصدر. قال أبو حاتم: نسبة هذه القراءة إلى ابن عباس ظلم. وحكاها أبو الفتح، عن ابن عباس، وعبد الله بن عمر، والجحدري، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وحكاها أيضاً عن هؤلاء الأربعة صاحب اللوامح، وحكاها ابن خالويه، عن ابن عباس، وعبيد بن عمير. وقرأ سلمة بن محارب كذلك، إلا أنه ضم التاء، أي هو منه، وعنه أيضاً فتح الميم وشد النون، وهاء الكناية عائد على الله، وهو فاعل سخر على الإسناد المجازي، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك، أو هو منه. والمعنى، على قراءة الجمهور: أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة عنده، إذ هو موجدها بقدرته وحكمته، ثم سخرها لخلقه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون يعني منه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي جميعاً منه، وأن يكون: وما في الأرض، مبتدأ، ومنه خبره.
انتهى. ولا يجوز هذان الوجهان إلا على قول الأخفش، لأن جميعاً إذ ذاك حال، والعامل فيها معنوي، وهو الجار والمجرور؛ فهو نظير: زيد قائماً في الدار، ولا يجوز على مذهب الجمهور.
{قل للذين آمنوا يغفروا}: نزلت في صدر الإسلام. أمر المؤمنين أن يتجاوزوا عن الكفار، وأن لا يعاقبوهم بذنب، بل يصبرون لهم، قاله السدّي ومحمد بن كعب، قيل: وهي محكمة، والأكثر على أنها منسوخة بآية السيف. يغفروا، في جزمه أوجه للنحاة، تقدّمت في: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} في سورة إبراهيم. {لا يرجون أيام الله}: أي وقائعه بأعدائه ونقمته منهم. وقال مجاهد: وقيل أيام إنعامه ونصره وتنعيمه في الجنة وغير ذلك. وقيل: لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز. قيل: نزلت قبل آية القتال ثم نسخ حكمها. وتقدم قول ابن عباس أنها نزلت في عمر بن الخطاب؛ قيل: سبه رجل من الكفار، فهم أن يبطش به، وقرأ الجمهور: ليجزي الله، وزيد بن عليّ، وأبو عبد الرحمن، والأعمش، وأبو علية، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالنون؛ وشيبة، وأبو جعفر: بخلاف عنه بالياء مبنياً للمفعول. وقد روي ذلك عن عاصم، وفيه حجة لمن أجاز بناء الفعل للمفعول، على أن يقام المجرور، وهو بما، وينصب المفعول به الصريح، وهو قوماً؛ ونظيره: ضرب بسوط زيداً؛ ولا يجير ذلك الجمهور. وخرجت هذه القراءة على أن يكون بني الفعل للمصدر، أي وليجزي الجزاء قوماً. وهذا أيضاً لا يجوز عند الجمهور، لكن يتأول على أن ينصب بفعل محذوف تقديره يجزى قوماً، فيكون جملتان، إحداهما: ليجزي الجزاء قوماً، والأخرى: يجزيه قوماً؛ وقوماً هنا يعني به الغافرين، ونكره على معنى التعظيم لشأنهم، كأنه قيل: قوماً، أي قوم من شأنهم التجاوز عن السيئات والصفح عن المؤذيات وتحمل الوحشة. وقيل: هم الذين لا يرجون أيام الله، أي بما كانوا يكسبون من الإثم، كأنه قيل: لم تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن.
{من عمل صالحاً} كهؤلاء الغافرين، {ومن أساء} كهؤلاء الكفار، وأتى باللام في فلنفسه، لأن المحاب والحظوظ تستعمل فيها على الدالة على العلو والقهر، كما تقول: الأمور لزيد متأتية وعلى عمرو مستصعبة. والكتاب: التوراة، والحكم: القضاء، وفصل الأمور لأن الملك كان فيهم. قيل: والحكم: الفقه. ويقال: لم يتسع فقه الأحكام على نبي، كما اتسع على لسان موسى من الطيبات المستلذات الحلال، وبذلك تتم النعمة، وذلك المن والسلوى وطيبات الشام، إذ هي الأرض المباركة. بينات: أي دلائل واضحة من الأمر، أي من الوحي الذي فصلت به الأمور. وعن ابن عباس: من الأمر، أي من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب. وقيل معجزات موسى. {فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم}: تقدم تفسيره في الشورى.


لما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل واختلافهم بعد ذلك، ذكر حال نبيه عليه الصلاة والسلام وما منّ به عليه من اصطفائه فقال: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء}. قال قتادة: الشريعة: الأمر، والنهي، والحدود، والفرائض. وقال مقاتل: البينة، لأنها طريق إلى الحق. وقال الكلبي: السنة، لأنه كان يستن بطريقة من قبله من الأنبياء. وقال ابن زيد: الدّين، لأنه طريق إلى النجاة. والشريعة في كلام العرب: الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه، ومنه قول الشاعر:
وفي الشرائع من جيلان مقتص *** رث الثياب خفي الشخص منسرب
فشريعة الدّين من ذلك، من حيث يرد الناس أمر الله ورحمته والقرب منه، من الأمور التي من دين الله الذي بعثه في عباده في الزمان السالف؛ أو يكون مصدر أمر، أي من الأمر والنهي، وسمي النهي أمراً. {أهواء الذين لا يعلمون}، قيل: جهال قريظة والنضير. وقيل: رؤساء قريش، حين قالوا: أرجع إلى دين آبائك. {هذا بصائر}: أي هذا القرآن؛ جعل ما نافية من معالم الدين، بصائر للقلوب، كما جعل روحاً وحياة. وقرئ: هذى، أي هذه الآيات. {أم حسب}: أم منقطعة تتقدر ببل والهمزة، وهو استفهام إنكار. وقال الكلبي: نزلت في عليّ، وحمزة، وعبيدة بن الحارث، وفي عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة. قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولئن كان ما تقولون حقاً، لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة؛ كما هو أفضل في الدنيا. واجترحوا: اكتسبوا، والسيئات: هنا سيئات الكفر؛ ونجعلهم: نصيرهم، والمفعول الثاني هو كالذين، وبه تمام المعنى. وقرأ الجمهور: سواء بالرفع، ومماتهم بالرفع أيضاً؛ وأعربوا سواء: مبتدأ، وخبره ما بعده، ولا مسوغ لجواز الابتداء به، بل هو خبر مقدم، وما بعده المبتدأ. والجملة خبر مستأنف؛ واحتمل الضمير في {محياهم ومماتهم} أن يعود على {الذين اجترحوا}، أخبر أن حالهم في الزمانين سواء، وأن يعود على المجترحين والصالحين بمعنى: أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء في إهانتهم عند الله وعدم كرامتهم عليه، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى، وذهن السامع يفرقه، إذ قد تقدم إبعاد الله أن يجعل هؤلاء كهؤلاء. قال أبو الدرداء: يبعث الناس على ما ماتوا عليه. وقال مجاهد: المؤمن يموت مؤمناً ويبعث مؤمناً، والكافر يموت كافراً ويبعث كافراً.
وقال ابن عطية: مقتضى هذا الكلام أنه لفظ الآية؛ ويظهر لي أن قوله: {سواء محياهم ومماتهم} داخل في المحسنة المنكرة السيئة، وهذا احتمال حسن، والأول أيضاً أجود. انتهى. ولم يبين كيفية تشبث الجملة بما قبلها حتى يدخل في المحسنة. وقال الزمخشري: والجملة التي هي: سواء محياهم ومماتهم، بدل من الكاف، لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً؛ فكانت في حكم المفرد.
ألا تراك لو قلت: أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديداً؟ كما تقول: ظننت زيد أبوه منطلق. انتهى. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري، من إبدال الجملة من المفرد، قد أجازه أبو الفتح، واختاره ابن مالك، وأورد على ذلك شواهد على زعمه، ولا يتعين فيها البدل. وقال بعض أصحابنا، وهو الإمام العالم ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ الإشبيلي، ويعرف بابن العلج، وكان ممن أقام باليمن وصنف بها، قال في كتابه (البسيط في النحو): ولا يصح أن يكون جملة معمولة للأول في موضع البدل، كما كان في النعت، لأنها تقدر تقدير المشتق تقدير الجامد، فيكون بدلاً، فيجتمع فيه تجوز أن، ولأن البدل يعمل فيه العامل الأول، فيصح أن يكون فاعلاً، والجملة لا تكون في موضع الفاعل بغير سائغ، لأنها لا تضمر، فإن كانت غير معمولة، فهل تكون جملة؟ لا يبعد عندي جوازها، كما يتبع في العطف الجملة للجملة، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي. انتهى.
وتبين من كلام هذا الإمام، أنه لا يجوز أن تكون الجملة بدلاً من المفرد، وأما تجويز الزمخشري أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم، فيظهر لي أنه لا يجوز؛ لأنها بمعنى التصيير. لا يجوز صيرت زيداً أبوه قائم، ولا صيرت زيداً غلامه منطلق، لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها. وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً، ليس فيها انتقال مما ذكرنا، فلا يجوز والذي يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها، أن تكون الجملة في موضع الحال، والتقدير: أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم؟ ليسوا كذلك، بل هم مفترقون، أي افتراق في الحالتين، وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال عليها الكاف، التي هي في موضع المفعول الثاني. وقرأ زيد بن علي، وحمزة، والكسائي، وحفص: سواء بالنصب، وما بعده مرفوع على الفاعلية، أجرى سواء مجرى مستوياً، كما قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم. وجوز في انتصاب سواء وجهين: أحدهما: أن يكون منصوباً على الحال، وكالذين المفعول الثاني، والعكس. وقرأ الأعمش: سواء بالنصب، محياهم ومماتهم بالنصب أيضاً، وخرج على أن يكون محياهم ومماتهم ظرفي زمان، والعامل، إما أن نجعلهم، وإما سواء، وانتصب على البدل من مفعول نجعلهم، والمفعول الثاني سواء، أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء. وقال الزمخشري: ومن قرأ ومماتهم بالنصب، جعل محياهم ومماتهم ظرفين، كمقدم الحاج وخفوق النجم، أي سواء في محياهم وفي مماتهم، والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً، وأن يستووا مماتاً، لافتراق أحوالهم وتمثيله بقوله: وخفوق النجم ليس بجيد، لأن خفوق مصدر ليس على مفعل، فهو في الحقيقة على حذف مضاف، أي وقت خفوق النجم، بخلاف محيا وممات ومقدم، فإنها تستعمل بالوضع مصدراً واسم زمان واسم مكان، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم زمان، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه، لأنها موضوعة للزمان وللمكان، كما وضعت للمصدر؛ فهي مشتركة بين هذه المدلولات الثلاثة، بخلاف خفوق النجم، فإنه وضع للمصدر فقط.
وقد خلط ابن عطية في نقل القرآن، وله بعض عذر. فإنه لم يكن معرباً، فقال: وقرأ طلحة بن مصرف، وعيسى بخلاف عنه: سواء بالنصب، محياهم ومماتهم بالرفع، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، والأعمش: سواء بالنصب، محياهم ومماتهم بالنصب؛ ووجه كلاً من القراءتين على ما تقتضيه صنعة الإعراب، وتبعه على هذا الوهم صاحب التحرير، وهو معذور، لأنه ناسخ من كتاب إلى كتاب؛ والصواب ما استبناه من القراءات لمن ذكرنا. ويستنبط من هذه الآية تباين حال المؤمن العاصي من حال الطائع، وإن كانت في الكفار، وتسمى مبكاة العابدين. وعن تميم الداري، رضي الله عنه، أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح: {ساء ما يحكمون}. وعن الربيع بن خيثم، أنه كان يردّدها ليلة أجمع، وكذلك الفضيل بن عياض، كان يقول لنفسه: ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ وقال ابن عطية: وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر، بدليل معادلته بالإيمان؛ ويحتمل أن تكون المعادلة هي بالاجتراح وعمل الصالحات، ويكون الإيمان في الفريقين، ولهذا بكى الخائفون.
{ساء ما يحكمون}: هو كقوله: {بئسما اشتروا} وتقدم إعرابه في البقرة. وقال ابن عطية: هنا ما مصدرية، والتقدير: ساء الحكم حكمهم. {بالحق}: بأن خلقها حق، واجب لما فيه من فيض الخيرات، وليدل عليه دلالة الصنعة على الصانع. {ولتجزي}: هي لام كي معطوفة على بالحق، لأن كلاًّ من التاء واللام يكونان للتعليل، فكان الخلق معللاً بالجزاء. وقال الزمخشري: أو على معلل محذوف تقديره: ليدل بها على قدرته، {ولتجزي كل نفس}. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون لام الصيرورة، أي فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون، لأن يجازي كل واحد بعمله، وبما اكتسب من خير أو شر. انتهى. {أفرأيت} الآية، قال مقاتل: نزلت في الحرث بن قيس السهمي، وأفرأيت: هو بمعنى أخبرني، والمفعول الأول هو: {من اتخذ}، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن اهتدى، يدل عليه قوله بعد: {فمن يهديه من بعد الله}، أي لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه. {من اتخذ إلهه هواه}: أي هو مطواع لهوى نفسه، يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده، كما يعبد الرجل إلهه. قال ابن جبير، إشارة إلى الأصنام: إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة. وقال قتادة: لا يهوى شيئاً إلا ركبه، لا يخاف الله، فلهذا يقال: الهوى إله معبود.
وقرأ الأعرج، وأبو جعفر: آلهة، بتاء التأنيث، بدل من هاء الضمير. وعن الأعرج أنه قرأ: آلهة على الجمع. قال ابن خالويه: ومعناه أن أحدهم كان يهوى الحجر فيعبده، ثم يرى غيره فيهواه، فيلقى الأول، فكذلك قوله: {إلهه هواه} الآية. وإن نزلت في هوى الكفر، فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة. قال ابن عباس: ما ذكر الله هوى إلاّ ذمه. وقال وهب: إذا شككت في خبر أمرين، فانظر أبعدهما من هواك فأته. وقال سهل التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك. وفي الحديث: «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» ومن حكمه الشعر قول عنترة، وهو جاهلي:
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد *** لا أتبع النفس اللجوج هواها
وقال أبو عمران موسى بن عمران الإشبيلي الزاهد، رحمه الله تعالى:
فخالف هواها واعصها إن من يطع *** هوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوج ترده *** وترم به في مصرع أي مصرع
{وأضله الله على علم}: أي من الله تعالى سابق، أو على علم من هذا الضال بأن الحق هو الدين، ويعرض عنه عناداً، فيكون كقوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} وقال الزمخشري: صرفه عن الهداية واللطف، وخذ له عن علم، عالماً بأن ذلك لا يجدي عليه، وأنه ممن لا لطف به، أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. وقرأ الجمهور: {غشاوة}: بكسر الغين؛ وعبد الله، والأعمش: بفتحها، وهي لغة ربيعة. والحسن، وعكرمة، وعبد الله أيضاً: بضمها، وهي لغة عكلية. والأعمش، وطلحة، وأبو حنيفة، ومسعود بن صالح، وحمزة، والكسائي، غشوة، بفتح الغين وسكون الشين. وابن مصرف، والأعمش أيضاً: كذلك، إلا أنهما كسرا العين، وتقدم تفسير الجملتين في أول البقرة. وقرأ الجمهور: {تذكرون}، بشد الذال؛ والجحدري يخففها، والأعمش: بتاءين.
{وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا} هي مقالة بعض قريش إنكاراً للبعث. والظاهر أن قولهم: {نموت ونحيا} حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير، أي تموت طائفة وتحيا طائفة. وأن المراد بالموت مفارقة الروح للجسد. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي نحيا ونموت. وقيل: نموت عبارة عن كونهم لم يوجدوا، ونحيا: أي في وقت وجودنا، وهذا قريب من الأول قبله، ولا ذكر للموت الذي هو مفارقة الروح في هذين القولين. وقيل: تموت الآباء وتحيا الأبناء. وقرأ زيد بن علي: ونحيا، بضم النون. {وما يهلكنا إلا الدهر}: أي طول الزمان، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها هذا إن كان قائلو هذا معترفين بالله، فنسبوا الآفات إلى الدهر بجهلهم أنها مقدرة من عند الله، وإن كانوا لا يعرفون الله ولا يقرون به، وهم الدهرية، فنسبوا ذلك إلى الدهر.
وقرأ عبد الله: إلا دهر، وتأويله: إلا دهر يمر. كانوا يضيفون كل حادثة إلى الدهر، وأشعارهم ناطقة بشكوى الدهر، حتى يوجد ذلك في أشعار المسلمين. قال ابن دريد في مقصورته:
يا دهر إن لم تك عتبي فاتئد *** فإن اروادك والعتبي سواء
و {ما كان حجتهم}، ليست حجة حقيقة، أي حجتهم عندهم، أو لأنهم أدلوا بها، كما يدلي المحتج بحجته، وساقوها مساقها، فسميت حجة على سبيل التهكم؛ أو لأنه في نحو:
تحية بينهم ضرب وجيع ***
أي: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي أن يكون لهم حجة البتة. وقرأ الجمهور: حجتهم بالنصب؛ والحسن، وعمرو بن عبيد، وزيد بن علي، وعبيد بن عمير، وابن عامر، فيما روى عنه عبد الحميد، وعاصم، فيما روى هارون وحسين، عن أبي بكر عنه: حجتهم، أي ما تكون حجتهم، لأن إذا للاستقبال، وخالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفياً بما، لم تدخل الفاء، بخلاف أدوات الشرط، فلا بد من الفاء. تقول: إن تزرنا فما جفوتنا، أي فما تجفونا. وفي كون الجواب منفياً بما، دليل على ما اخترناه من أن جواب إذا لا يعمل فيها، لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها.
{ائتوا}: يظهر أنه خطاب للرسول والمؤمنين، إذ هم قائلون بمقالته، أو هو خطاب له ولمن جاء بالبعث، وهم الأنبياء، وغلب الخطاب على الغيبة. وقال ابن عطية: إئتوا، من حيث المخاطبة له؛ والمراد: هو وإلهه والملك الوسيط الذي ذكره هو لهم؛ فجاء من ذلك جملة قيل لها إئتوا وإن كنتم. انتهى. ولما اعترفوا بأنهم ما يهلكهم إلا الدهر، وأنهم استدلوا على إنكار البعث بما لا دليل لهم فيه من سؤال إحياء آبائهم، ردّ الله تعالى عليهم بأنه تعالى هو المحيي، وهو المميت لا الدهر، وضم إلى ذلك آية جامعة للحساب يوم البعث، وهذا واجب الاعتراف به إن أنصفوا، ومن قدر على هذا قدر على الإتيان بآبائهم


العامل في {ويوم تقوم}: يخسر، و{يومئذ}: بدل من يوم، قاله الزمخشري، وحكاه ابن عطية عن فرقة. والتنوين في يومئذ تنوين العوض عن جملة، ولم تتقدم جملة إلا قوله: {ويوم تقوم الساعة}، فيصير التقدير: ويوم تقوم إذ تقوم الساعة يخسر؛ ولا مزيد فائدة في قوله: يوم إذ تقوم الساعة، لأن ذلك مستفاد من ويوم تقوم الساعة. فإن كان بدلاً توكيدياً، وهو قليل، جاز ذلك، وإلا فلا يجوز أن يكون بدلاً. وقالت فرقة العامل: في ويوم تقوم ما يدل عليه الملك، قالوا: وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست بالسماء ولا بالأرض، لأن ذلك يتبدل، فكأنه قال: {ولله ملك السموات والأرض}، والملك يوم القيامة، فحذفه لدلالة ما قبله عليه؛ ويومئذ منصوب بيخسر، وهي جملة فيها استئناف، وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض. و{المبطلون}: الداخلون في الباطل. {جاثية}: باركة على الركب مستوفرة، وهي هيئة المذنب الخائف. وقرئ: جاذية، بالذال؛ والجذو أشد استيفازاً من الجثو، لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه. وعن ابن عباس: جاثية: مجتمعة. وعن قتادة: جماعات، من الجثوة: وهي الجماعة، يجمع على جثى، قال الشاعر:
ترى جثو بين من تراب عليهما *** صفائح صم من صفيح منضد
وعن مورج السدوسي: جاثية: خاضعة، بلغة قريش. وعن عكرمة: جاثية: متميزة. وقرأ يعقوب: {كل أمة تدعى}، بنصب كل أمة على البدل، بدل النكرة الموصوفة من النكرة؛ والظاهر عموم كل أمة من مؤمن وكافر. قال الضحاك: وذلك عند الحساب. وقال يحيى بن سلام: ذلك خاص بالكفار، تدعى إلى كتابها المنزل عليها، فتحاكم إليه، هل وافقته أو خالفته؟ أو الذي كتبته الحفظة، وهو صحائف أعمالها، أو اللوح المحفوظ، أو المعنى إلى ما يسبق لها فيه، أي إلى حسابها، أقوال. وأفراد كتابها اكتفاء باسم الجنس لقوله: {ووضع الكتاب} {اليوم تجزون}، {هذا كتابنا}، هو الذي دعيت إليه كل أمة، وصحت إضافته إليه تعالى لأنه مالكه والآمر بكتبه وإليهم، لأن أعمالهم مثبتة فيه. والإضافة تكون بأدنى ملابسة، فلذلك صحت إضافته إليهم وإليه تعالى
. {ينطق عليكم}: يشهد بالحق من غير زيادة ولا نقصان. {إنا كنا نستنسخ}: أي الملائكة، أي نجعلها تنسخ، أي تكتب. وحقيقة النسخ نقل خط من أصل ينظم فيه، فأعمال العباد كأنها الأصل. وقال الحسن: هو كتب الحفظة على بني آدم. وعن ابن عباس: يجعل الله الحفظة تنسخ من اللوح المحفوظ كل ما يفعل العباد، ثم يمسكونه عندهم، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك، فبعيد أيضاً، فذلك هو الاستنساخ. وكان يقول ابن عباس: ألستم عرباً؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟ ثم بين حال المؤمن بأنه يدخله في رحمته، وهو الثواب الذي أعد له، وأن ذلك هو الظفر بالبغية؛ وبين الكافر بأنه يوبخ ويقال له: {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم} عن اتباعها والإيمان بها وكنتم أصحاب جرائم؟ والفاء في: أفلم ينوي بها التقديم؛ وإنما قدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدراً الكلام، والتقدير: فيقال له ألم.
وقال الزمخشري: والمعنى ألم يأتكم رسلي؟ فلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف المعطوف عليه. انتهى. وقد تقدم الكلام معه في زعمه أن بين الفاء والواو، إذا تقدمها همزة الاستفهام معطوفاً عليه محذوفاً، ورددنا عليه ذلك.
وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد: {وإذا قيل إن وعد الله}، بفتح الهمزة، وذلك على لغة سليم؛ والجمهور: إن بكسرها. وقرأ الجمهور: {والساعة} بالرفع على الابتداء، ومن زعم أن لاسم إن موضعاً جوز العطف عليه هنا، أو زعم أن لأن واسمها موضعاً جوز العطف عليه، وبالعطف على الموضع لأن واسمها هنا. قال أبو علي: ذكره في الحجة، وتبعه الزمخشري فقال: وبالرفع عطفاً على محل إن واسمها، والصحيح المنع؛ وحمزة: بالنصب عطفاً على الله، وهي مروية عن الأعمش، وأبي عمرو، وعيسى، وأبي حيوة، والعبسي، والمفضل. {إن نظن إلا طناً}، تقول: ضربت ضرباً، فإن نفيت، لم تدخل إلا، إذ لا يفرغ بالمصدر المؤكد، فلا تقول: ما ضربت إلا ضرباً، ولا ما قمت إلا قياماً. فأما الآية، فتأول على حذف وصف المصدر حتى يصير مختصاً لا مؤكداً، وتقديره: إلا ظناً ضعيفاً، أو على تضمين نظن معنى نعتقد، ويكون ظناً مفعولاً به. وقد تأول ذلك بعضهم على وضع إلا في غير موضعها، وقال: التقديران نحن إلا نظن ظناً. وحكى هذا عن المبرد، ونظيره ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب:
ليس الطيب إلا المسك ***
قال المبرد: ليس إلا الطيب المسك. انتهى. واحتاج إلى هذا التقدير كون المسك مرفوعاً بعد إلا وأنت إذا قلت: ما كان زيد إلا فاضلاً نصبت، فلما وقع بعد إلا ما يظهر أنه خبر ليس، احتاج أن يزحزح إلا عن موضعها، ويجعل في ليس ضمير الشأن، ويرفع إلا الطيب المسك على الابتداء والخبر، فيصير كالملفوظ به، في نحو: ما كان إلا زيد قائم. ولم يعرف المبرد أن ليس في مثل هذا التركيب عاملتها بنو تميم معاملة ما، فلم يعملوها إلا باقية مكانها، وليس غير عامله. وليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب في نحو ليس الطيب إلا المسك، ولا تميمي إلا وهو يرفع. في ذلك حكاية جرت بين عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء، ذكرناها فيما كتبناه من علم النحو. ونظير {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} قول الأعشى:
وجدّ به الشيب أثقاله *** وما اغتره الشيب إلا اغتراراً
أي اغتراراً بيناً. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى {إن نظن إلا ظناً}؟ قلت؛ أصله نظن ظناً، ومعناه إثبات الظن مع نفي ما سواه، وزيد نفى ما سوى الظن توكيداً بقوله: {وما نحن بمستيقنين}.
انتهى. وهذا الكلام ممن لا شعور له بالقاعدة النحوية، من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل ومفعول وغيره، إلا المصدر المؤكد فإنه لا يكون فيه. وقدّره بعضهم: إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً، قال: وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنه لا يجوز في الكلام: ما ضربت إلا ضرباً، فاهتدى إلى هذه القاعدة النحوية، وأخطأ في التخريج، وهو محكي عن المبرد، ولعله لا يصح. وقولهم: إن نظن، دليل على أن الكفار قد أخبروا بأنهم ظنوا البعث واقعاً، ودل قولهم قبل قوله: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} على أنهم منكرون البعث، فهم، والله أعلم، فرقتان، أو اضطربوا، فتارة أنكروا، وتارة ظنوا، وقالوا: {إن نظن إلا ظناً} على سبيل الهزء.
{وبدا لهم سيئات ما عملوا}: أي قبائح أعمالهم، أو عقوبات أعمالهم السيئات؛ وأطلق على العقوبة سيئة، كما قال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} {وحاق بهم} أي أحاط، ولا يستعمل حاق إلا في المكروه. {ننساكم}: نترككم في العذاب، أو نجعلكم كالشيء المنسي الملقى غير المبالى بهم. {كما نسيتم لقاء يومكم}: أي لقاء جزاء الله على أعمالكم، ولم تخطروه على بال بعد ما ذكرتم به وتقدم إليكم بوقوعه. وأضاف اللقاء لليوم توسعاً كقوله: {بل مكر الليل والنهار} وقرأ الجمهور: {لا يخرجون}، مبنياً للمفعول؛ والحسن، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: مبنياً للفاعل. {منها}: أي من النار. {ولا هم يستعتبون} أي بطلب مراجعة إلى عمل صالح. وتقدم الكلام في الاستعتاب. وقرأ الجمهور: {رب}، بالجر في الثلاثة على الصفة، وابن محيصن: بالرفع فيهما على إضمار هو.